وقفت على شفير القبر في هذه الساعة من النهار تلفحني الرياح من كل اتجاه ، ويملأ عيني تراب القبور ... وقفت متأملاً حال هؤلاء الموتى المرتهنين في قبورهم القابعين في منازل الصمت الرهيب ، كم حوت في بطنها من شيوخ ونساء وأطفال وشباب كانت لهم آمال لم يحققوها وأماني لم ينالوها ، كانوا أنعم ما يكون ، فلم يكن أحدهم يطيق حرارة الشمس ، وهاهو اليوم في جوفها ، ولم يكن يتحمل عجاج التراب وهاهو اليوم يتقلب في قلبها ، كم كان ينازع هذا الإنسان الساكن في قبره هنا الأحياء يطلب منهم جاهاً ومالاً ومنصباً ، فذهبت المناصب والأموال وبقيت الأعمال ، هاهو يسكن هنا وحيداً فريداً .. لا مال ولا ولد ولا أصدقاء ، الكل غابت صورته وبقي هو بذاكرة عمله وحسن كدحه في حفرة مظلمة ضيقة ، إلا ما كان من بعضها من الوسع والنور والسرور بسبب صلاة خاشعة أو آيات من القرآن تليت في جوف الليل أو صدقة خفية كانت بعيدة عن أعين الناس ...
أترى هؤلاء بعد أن عاينوا وشاهدوا ما لم نشاهده نحن الأحياء أكانوا سيعملون أ كثر مما عملوا ولتابوا مما كانوا فيه من التقصير والتسويف !!!
إنني أقف بين القبور الآن وأتذكر نفسي وأقول : لو كنت بين هؤلاء الموتى كم سأكون محروماً من العمل ، محروماً من الإخلاص ، محروماً من اغتنام الأوقات ؟
لا لا .. لا أريد أن تذهب ساعات عمري ولم أشبع من الصلاة ولم أشبع من تلاوة القرآن وذكر الله والعمل لدينه ..
لا لا .. لن تذهب لحظاتي حتى أعطي نفسي كل ما أملك وأرضي ربي غاية جهدي ، لن يطيق جسدي هذا المكان وأنا الذي غرقت في الترف والنعيم ، سأبذل قصارى الجهد لأراجع أمري وأتدارك ما فات من حياتي ...
إنها النفس .. تتذكر مصيرها فترتد إلى طبيعتها !
عجباً لك أيتها النفس .. ألست قبل لحظات كان لك آمال وطموحات ورغبة في الانتقام !! ما الذي غيرك وأسكنك !! أم أنها لحظة المحاسبة والمراجعة !!
إنني أقف هنا متأملاً وأتذكر فرقاً من الناس وأقول ما أقساهم وأظلمهم :
تذكرت في هذه الساعة طواغيت الأرض ، كم قتلوا وكم شردوا وكم عذبوا .. تذكرت ذلك الطاغوت الصغير طاغوت سوريا " بشار " - لا بشره الله بالخير - كم بطشت زبانيته بالناس وتلطخت أيديهم الظالمة بدمائهم وأعراضهم وأموالهم،
ماذا يريدون وعلى ماذا يقاتلون !!
أمن أجل العرش البائد !!
أم من أجل الطائفة البائسة التي ما عرف التاريخ الإنساني شر منها !!
أم من أجل عيون أولئك الفرس الذين يستميتون من أجل إعادة أمجاد زرادشت وكسرى وعبدة النار ، ولا بأس عندهم أن يقتل في سبيل ذلك كل من في الأرض جميعا ليبقى الطاغوت الصغير !!
ألا يعتبر هذا الطاغوت بمصير والده الهالك الذي أباد في حماة لوحدها أكثر من خمسين ألف انسان ومات من غير عقوبة حتى يقف أولئك الخمسون ألف ليطلبوا بالقصاص العادل ممن حرمهم حق الحياة ..
أليس لك في هذه الحفرة عبرة وآية ؟
وتذكرت هنا .. أولئك الذين أضاعوا الفرائض أو تكاسلوا عنها أو أخروها عن وقتها وقلت لنفسي : أترى لو تذكروا هذا المكان الموحش أكانوا سيضيعون صلاةً واحدة ؟ إن هؤلاء الموتى يتمنون أن تعود لهم أنفاسهم ساعة واحدة ليقولوا لإخوانهم وأصحابهم وأولادهم بل للناس جميعاً : ما أجمل الصلاة .. ما أجمل القرآن .. ما أجمل الحياة بالطاعة .. ما أعذب الدنيا إذا كانت مع الله ..
حتماً سنقول : يا ليتنا جعلنا الليل والنهار عبادة وطاعة ودعوة وتغاضي عن هفوات الناس وزلاتهم ، ياليتنا كنا أكبر من أن نتتبع عيوب الناس وأخطائهم ، فلقد كان في الانشغال بعيوبنا أعظم الخير .. ولكن هيهات هيهات " لكل أجل كتاب " ولكل خاتمة حساب .
وتذكرت في هذا المكان الساكن أولئك الذين أنفقوا ساعات عمرهم في تحصيل الملذات والشهوات ليس لهم هم في الحياة إلا ذلك حتى أنساهم الشيطان لحظة النهاية ، فبقيت الحسرة وتلاشت السكرة ، أين القابعون الساعات الطويلة أمام أنفاس الغزل الكاذبة يتبادلونها عبر أثير الانترنت فهجروا صلواتهم وربما زوجاتهم وأولادهم حتى عاش الخمسيني أو الستيني حياة عشق جديدة تاركاً كل مسئوليات الحياة خلف ظهره ، وتناسوا أن النفس لها إقبال وشغف وتعلق ، وأن الشيطان قد أحكم قبضته في الأشواط الأخيرة من عمر الدنيا ، فما ذهب منها أكثر مما بقي ، نعم لقد اشتدت قبضة الشيطان فأخذ يعيث في الأرض فساداً ويخترع أشنع الأساليب للتضليل والإغواء ، والمتساقطون على الطريق أعداد رهيبة وكأني أراهم جثثاً متناثرة هنا وهناك ، فيقال هذا مات بكأس وآخر بامرأة وثالث بدرهم حرام في لحظة غفلة ورابع مات بنظرة وسابع بردة عن الإسلام ..
كم ضل عن الطريق أناس كانوا صالحين ، وكم ثبت على الطريق أناس كنا نعدهم من الغافلين ، ولكن العبرة ليست بالصور ولا بالأشكال ، إنما العبرة بصدق القلب في علاقته بربه ، والعبرة بإيثار حب الله على كل محاب الدنيا وإن تزينت ، والعبرة بفهم طبيعة الصراع بين النداءات الثلاثة .. نداء الرحمن أو نداء الشيطان أو نداء النفس الأمارة بالسوء .. فالطريق واضحة المعالم لمن كان له قلب ، أو ما زال له بقايا قلب ، أن يستدرك الجولة وأن يتعاهد نفسه بالعزيمة وأن يتيقن أن الحياة ابتلاء وأي ابتلاء ..
" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق