للكاتب / حامد الادريسي ..
يدور حديثنا اليوم حول آية من آيات الله العجيبة، واحدة من كثير من الآيات التي نمر عليها ونحن عنها معرضون، لا نتأمل بديع الحكمة فيها ولا نرى فيها سوى الظواهر مع أنها مليئة بالأسرار الربانية، قال تعالى : (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون[1]) والزواج آية من آيات الله، قال تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة[2])، فسبحان الذي ليس له صاحبة ولا ولد، ولا يحتاج في عظمته القدسية إلى أحد، الفرد الصمد، الذي ليس في الكون فرد سواه، ولا يملك الأحدية إلا هو، سبحانه وبحمده كما يحب وحتى يرضى.
إنه لا شيء في هذا الكون يقوم بذاته دون الحاجة إلى زوج إلا الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكمتذكرون[3]) فالله الفرد وما سواه زوج، ومن هاهنا كانت حياتنا مفتقرة إلى مبدأ الزوجية الذي هو عكس الأحدية، ليبقى الفرد الأحد هو الخالق سبحانه وتعالى.
فالزواج ضرورة تكوينية لازمة للخلق لا تنفك عنه، وما الحب والعواطف والمشاعر والدوافع الغريزية إلا انفعالات تؤزنا إلى هذه الضرورة، وتلجؤنا إليها، كي يستمر النوع ويخلف بعضه بعضا إلى أن يأتي الأجل المحتوم، ويحكم الله على هذا الخلق بالفناء: قال تعالى (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله[4]) نسأل الله أن يرحمنا برحمته، ويكرمنا بجنته...
نصل الآن إلى الزوج، لنضعه في مكانه من هذه العجلة التكوينية، فنراه رقما في معادلة النسل، ونجد أن هذه الشجرة الأسرية التي كتبت منذ أن جرى قلم القدر في سطور اللوح المحفوظ، وحدد لكل رجل نسله بأسمائهم وأسماء أمهاتهم، ونراه حلقة وصل بين جيلين، إلى جانب المرأة التي تمثل الرقم الآخر في المعادلة، وتأخذ دورها التكويني كي تنطلق قصة الحياة من جديد مع كل ألم مخاض، ومع كل صرخة ولادة.
وفي خضم ذلك كله، ملكان عن اليمين وملكان عن الشمال، فينال المحسن جزاء إحسانه عطاء، وينال المسيء جزاء إساءته وفاقا، ويتدخل الشرع ليرسم لكل حدوده، ويضمن لكل حقوقه، فقسمة الأدوار بين الطرفين، اقتضت أن يقوم الزوج بحقوق مالية وقوامية، تتناسب مع الآليات والميكانيزمات التي أعطيت له كرجل، والتي تجعله صلبا كصلابة الحياة، قاسيا كهمومها، خشنا كتحدياتها، وتقوم المرأة بحقوق أسرية وتربوية، يساعدها عليها تكوينها الأنثوي اللين، بكل خصائصه النسوية والعاطفية، والذي يجعل منها أما تنتج الحنان والحليب، وتطعم الأسرة حبا وعطفا، لتكمل الجانب الروحي والذي يضفي على مادية الزوج معاني الحياة، فهي في الحقيقة روح البيت، والرجل بنيانه.
لا بأس إذن أن يكون الزوج بصلابته وحزمه رب الأسرة، ولا بأس في أن تطيعه الزوجة فيما لا معصية للخالق فيه، وإلا أخذت الزوجة من صلابة الرجل، وأخذ الزوج من ليونة المرأة، وفي هذا فساد لجمال الصورة وتكاملها، وفيه عصيان للرب، وخروج عن صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة!
فالزوج والزوجة طرفان لقضية واحدة، وعنصران متكافئان في معادلة الحياة، وليس بينهما فرق إلا في الحقوق والواجبات، نظرا لما استوجبته قسمة الأدوار بينهما، وما يستوجبه قانون التدافع الذي لا يقبل طرفين متساويين في القوة والاتجاه، لذا قال تعالى : (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم[5]) ولذلك جعلها الله ناقصة عقل، حتى يسهل مهمة قيادة الأسرة على الرجل، ويحمله مسؤولية الأسرة، ويسأله عنها يوم القيامة، قال تعالى : (ياأيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا[6]) وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته[7]) وفي هذا تخفيف عن المرأة لو علمت، ورحمة بها لو فقهت...
هذا التراتب الضروري، هو الذي جعل الرجل في مكان المسؤولية بتبعاته وتشريفاته، وثوابه وعقابه، فتقديمه على المرأة في شؤون الأسرة ضروري بضرورة تقدم أحد هذين الطرفين واستحالة أن تسير سفينة بقائدين، وهو الذي جعل له حقوقا في حياة الزوجة المسلمة، وجعل له منة عليها وفضلا...
من هنا كان الزوج امتحانا دينيا، وواجبا شرعيا تدرجه المرأة المسلمة ضمن واجباتها اليومية، فهو اختبار يشمل مجموعة من الاختبارات، إذ هو اختبار على الصبر وعلى التحمل وعلى شكر النعمة وهو أيضا اختبار على مدى التوكل والتعلق بالله عز وجل، وإن خفي عليك وجه كونه اختبار توكل، فسيظهر لك مصداق ذلك في ثنايا الحديث.
هنا نجد النساء بين طرفي نقيض، فمنهم من جعلت الزوج إلها يعبد، وربا يأمر فيطاع، ويسأل فيعطي، ويرجى فيثيب، ومنهم من جعلته حلقة في أذنها تتجمل به متى شاءت وتضعه في دولاب المتاع إلى وقت الحاجة.
أما النوع الأخير، فقد رسبت في الامتحان من جهة أمر الشرع لها بطاعة الزوج وتقديره واحترامه، وقد يكون هو السبب في رسوبها، والدافع لها إلى علوها وعتوها، بشخصيته البعيدة عن تعاليم الدين، أو بانحلاله الأخلاقي وميوعة رجولته وقلة غيرته، فلا تجد فيه المرأة الخشونة التي تريد أن تحتمي بظلها، ولا ترى فيه الأسد الذي يحمي أنوثتها، ويحفظ جمالها من عبث العابثين، مما يدفعها إلى الاستخفاف به وعدم الاكتراث له، فتمارس عليه نوعا مريرا من أنواع العذاب الدنيوي، وتذيقه من عجيب قدرة الله في تحويل النعم إلى نقم، نسأل الله أن يحفظنا وأهلينا من شر الذنوب وآثارها.
وأما النوع الأول، وهي التي طغت بالزوج فوق مقداره، وجعلته نصب عينها في كل صغيرة وكبيرة، وملاذها في كل ملمة ومصيبة، وأدارت عليه رجاءها وخوفها، وأطاعته في المعصية، وحفظت رضاه في سخط الله، فمصيبتها أطم، وخطأها أكبر وأشد، لأنها مست جناب التوحيد، وأحلت العبد مكان الرب في القلب، فبالغت في حب الزوج، وقصرت حياتها على هذا البشر الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فهي تخشاه كخشية الله أو أشد خشية، وترجوه كما لو أن بيده ملكوت كل شيء، حتى لا تكاد تدعو الله في حاجة إلا وفي قلبها أن زوجها سيقضيها، ولا تفكر في أمر إلا خطر هو على بالها، وهذا والله شر مستطير، وخطر كبير.
وهذا الأمر يظهر جليا في ارتباط المرأة ماديا بزوجها، حتى تنسى أنه إنما يتصرف كعبد مأمور، وأن ناصيته بيد ربه الذي يقلب قلبه كيف يشاء، وأنا أقول لكل زوجة، لو أردت شيئا من أبي عبد الله فاسألي ربه وربك، يأتيك بحاجتك من أبي عبد الله رغم أنف أبي عبد الله، فما أبو عبد الله إلا عبد، والعبد لا يعطي ولا يمنع إلا بإذن سيده ومولاه، وتخيلي معي رجلا دخل على ملك عظيم، فسأله شيئا من أمور الدنيا فأعطاه، وأمر الغلام أن ينطلق معه إلى بيت المال ليصرف له ما أمره به، وفي الطريق أخذ الرجل يتوسل إلى الغلام ويقبل رأسه ويديه، لكي يصرف له ما أمر الملك بصرفه، فهذا الرجل أحمق كأشد ما يكون الحمق، ولو علم الملك بفعله لغضب أشد الغضب، ولرأى في ذلك استخفافا بحقه، ولربما منع هذا الرجل من الدخول عليه، إذ لم يلتزم بالآداب المرعية في جناب الملوك، وهذا -ولله المثل الأعلى- حال كثير من النساء مع أزواجهن.
ويعظم هذا الأمر ويظهر أثره في حالة الفراق إما بموت أو طلاق، فتجد المرأة قد أسقط في يدها بل لربما بكت حتى أضر ذلك بصحتها، ولربما حلقت وصلقت ودعت على نفسها بالويل والثبور، ووقعت في جاهلية جهلاء، ولربما سمع منها أثر هذه العقيدة الفاسدة، ورددت كلمات كفرية، يرددها كثير من النساء في حال فقدان أزواجهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما المؤمنة المتوكلة على الله، فهي في اطمئنان دائم، لأنها تعيش في كنف الله، وتأكل من رزق الله، قد سلمت أمورها إليه، وعاملت الزوج بما أمرها به ربه وربها، فأطاعته في المعروف، وأرضته إرضاء لربها، فمتى ما انتهت مسؤوليتها تجاه هذا الزوج إما بموت أو فراق، بقيت في حضن الله، تأكل من رزقه وتنتظر نصيبها مما كتب الله لها قبل أن تولد بآلاف السنين، فلا يهتز لها ركن، ولا يسمع لها صوت أو عويل، بل تبكي بكاء الفطرة البشرية، وتسارع إلى ربها راضية مرضية، لا خوف عليها ولا حزن، فلم تكن يوما ترى رازقا غير الله، ولا معطيا إلا الله، وما هذا الزوج إلا وسيلة واحدة من وسائل الكريم الذي خزائنه ملأى، ويده سحاء الليل والنهار.
إن هذه المرأة نعيم من نعيم الدنيا، فالدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة، وهي منة يمن الله بها على من يشاء من عباده، ويحرمها من لم يأخذها بحقها، ويعاشرها بالمعروف الذي أوجبه الله للنساء، قال تعالى : (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا[8])، فإن هو لم يفعل، يوشك أن يحرم هذه النعمة العظيمة، ويحولها الله إلى من يعرف قدرها ويؤدي حق شكرها، فبالشكر تدوم النعم.
هذه العقيدة الصادقة في الله عز وجل، تجعل المرأة في استقرار دائم، وتجعلها في ركن شديد من ظلم الزوج أو تقصيره، فهي تعيش معه ما أطاع الله فيها، وما رضيت به زوجا لها، وهي في مأمن بقوله تعالى : (وفي السماء رزقكم وما توعدون[9]) وبآية الخلع التي قال الله فيها : (فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به[10]) وهي ميزة ميزت ديننا الحنيف عن غيره من الديانات، التي تجعل المرأة في ربقة الزوج إلى الأبد، بينما نجد بريرة ترفض العيش مع مغيث، ولا ترى فيه كفؤا لها، ونجد في ديننا الحنيف، قصة المرأة التي لم ترض بالعيش مع صحابي جليل لأمر لم يرقها ولم تصبر عليه، فعن عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي طلقني فأبت طلاقي، وإني تزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته[11]. وكلامها فيه كناية عن عدم رضاها عن زوجها لضعفه فيما يخص النساء، وهذا أمر لا تجده إلا في دين عظيم كديننا، الذي يراعي حاجة الإنسان ويضمن له حياة مطمئنة، مع العلم أن صبر كثير من النساء على ما لم تصبر عليه هذه الصحابية الجليلة، أضر بهن أشد الضرر، وعرضهن لأعظم الفتن، والله المستعان.
إن ثقافتنا الجماهيرية التي نتربى عليها ونتلقاها بالتسليم، في حاجة إلى إعادة النظر في كثير من زواياها، وهي المسؤولة عن التلاعب بمقومات الحياة الزوجية ومعانيها، وهي التي جعلت الطلاق مصيبة وعارا، وآزرت الزوج على زوجته، وجعلت مقصد استمرار العلاقة الزوجية مقصدا ساميا فوق كل المقاصد، وهو ليس كذلك، فالشرع يريد استمرار نوع من العلاقة الزوجية، لا استمرار أي علاقة زوجية وإن لم تجد المرأة فيها حاجتها وسعادتها، وكذلك الأمر بالنسبة للزوج...
إن الطلاق في حد ذاته لا يوصف بمدح أو ذم، فهو وسيلة من الوسائل تأخذ حكم غايتها وظروفها، فمتى ما كان الزوج عقوبة، فالطلاق نعمة، وإنه لأمنية تتمناها الكثير من النساء، لولا ضعف العقيدة، وفساد المجتمع.
إن موقف المرأة المسلمة من الزوج، يجب أن يكون معتدلا، فهو صاحب منة وفضل يجب عليها مكافأته وتأدية حقوقه، لكن الذي وهبها هذا الزوج جعل لها الخيار في هذا الرباط الأسري، ولم يجعلها رهينة ضربة حظ، قد تخطيء وقد تصيب...
فعلى المرأة المسلمة أن تربط حب الزوج بحب الله، وتجعل طاعته من طاعة الله، وتعيش معه ما أدى حق الله، فإن رأت منه غير ذلك، فلترجع إلى عقيدة التوكل...
ولتعلم أن ربها حي لا يموت...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق